لوحة طبيعية منحوتة في الصخر والجبال
| وادي جزين |
|
| أحد البيوت القائمة على قمة جبل في مدينة جزين |
|
| جزين.. عروس من عرائس الجنوب اللبناني |
|
بيروت:
لا
شيء في لبنان أجمل من ربيع يتلو شتاء قارسا فاض بالمطر والثلج، فمع انحسار
البرد وبينما تبدأ الثلوج في الذوبان، تصبح الجبال من الخضرة بحيث تفتن
النظر، وتسحر الأنوف بعطر الزهور البرية.
أشجار على مد النظر، أحراش من الصنوبر هي الأكبر من نوعها على حوض البحر
الأبيض المتوسط، وديان تتساقط على منحدراتها شلالات فاتنة. إنك في جزين،
عروس الجنوب اللبناني وأيقونته.
حين تأتي جزين من بيروت وقبل أن تبلغ هذه المدينة الجبلية الشاهقة، لا بد
لك من وقفة ساحلية في صيدا، حيث بمقدورك أن ترتاح على شاطئ المتوسط، وأن
تزور خان الصابون الذي هو متحف الآن بعد تجديده وترميمه، وخان الإفرنج الذي
يستقبل المهرجانات الصيفية والرمضانية في صيدا ويعود بناؤه إلى القرن
السادس عشر، وأن تجول في القلعة البحرية، كما تتنشق عطر زهر الليمون الذي
تعبق به المدينة بفضل بساتين الحمضيات المحيطة بها. من صيدا تأخذ الطرق
صعودا إلى مجدليون ومن ثم إلى لبعا وكفرفالوس وبعدها أنان، حيث تكتشف هناك
البركة الاصطناعية التي تستخدم في توليد الكهرباء. الطريق يليق بأولئك
المفتونين بلون الخضرة، وسحر الطبيعة. قليلة هي المنازل في هذه المناطق،
وقلة أيضا هم السكان هنا. الهجرة هي من نصيب غالبية كبيرة، تركت قراها التي
ترتاح بين مرتفعات جبل لبنان وانبساط القرى الجنوبية، وذهبت إلى أقاصي
الدنيا. أحد أشهر هؤلاء اليوم هو المكسيكي كارلوس سليم الحلو الذي تعود
أصول عائلته إلى جزين وصنف أغنى رجل في العالم عام 2011. ترك والد كارلوس
جزين مطلع القرن الماضي متوجها إلى المكسيك هربا من تجنيد العثمانيين وبقي
هناك.
تصل جزين لتكتشف مدينة صغيرة، أنيقة، كل ما فيها جميل وأخاذ. تلفتك بيوتها
القديمة بقناطرها ونوافذها وقرميدها وهي تقف شاهقة على رؤوس الجبال. أحد
أشهر منازل المدينة هو منزل الدكتور فريد سرحال، لكن الحقيقة أن مجرد السير
في الشوارع يجعلك تكتشف أن العمران هنا بقي محافظا على طابع شرقي بديع. لا
بد أيضا أن تلفتك حدائق جزين الصغيرة المتفرقة هنا وهناك، إضافة إلى مبنى
بلديتها الذي أعيد ترميمه ويعود إلى القرن التاسع عشر.
جزين لوحة طبيعية منحوتة في الصخر والجبال، فيها بإمكانك أن تزور المغاور
وأن ترى المطاحن القديمة، هذا إضافة إلى المسابح التي تصبح في الصيف متعة
إضافية للسياح.
جزين الجنوبية التي عرفت وفود السياح العرب القادمين من فلسطين ومصر
والشام، باكرا جدا ضرب اقتصادها في الصميم، بعد الاحتلال الإسرائيلي لها،
الذي لم يخرج منها إلا عام 1999. الخطة التي رسمت لإعادتها إلى الخريطة
السياحية ولمحبيها من العرب نجحت ورجع الرونق إليها. فللمدينة كل مقومات
الجمال الخلاب، إضافة إلى أنها تنام على خزان من المياه الجوفية والينابيع،
ومنها تنحدر شلالات فرجة للناظر.
جزين من ميزاتها أنها ملتقى حقيقي لعدة مناطق لبنانية، فبإمكانك أن تأتيها
من محافظة الجنوب إن أحببت أو تزورها متوجها من البقاع إن أردت، أو حتى من
جبل لبنان أو بيروت، أكثر من ألفي هكتار من المناظر الأخاذة، عرفت بمصانع
الرخام فيها، وبصناعاتها اليدوية.
بمقدورك أن تبقى في جزين لأيام تستريح من ضجيج المدن في أحد فنادقها التي
باتت مشهورة بجودتها، كما أنه يتم حاليا بناء شاليهات يتوقع أن تجتذب
الكثير من السياح. فالمنطقة شدت العرب حتى قبل عام 1948، ومرتفعاتها المطلة
على مناظر خلابة جعلت منها مقصدا شتويا وصيفيا لأهالي صيدا، الذين
يستمتعون بثلوجها الشتوية ومناخها الصيفي الجاف، خصوصا وأنها لا تبعد عنهم
أكثر من نصف ساعة في السيارة.
لكن جزين أيضا شهيرة بمطاعمها القائمة على كتف الجبل ومطلة على شلالاتها،
فهناك عند مدخلها مطعم «جنة الصنوبر» بواجهاته الزجاجية والقائم بين أحراش
الصنوبر. أما داخل المدينة وعلى شلالاتها فهناك «الشالوف» و«الشلال» كما
«صخرة الشلال» و«منظر الشلال» و«بحيرة الشلال» ومطعم «الحرش».
ولمن يحب المرتفعات المشرفة، بمقدوره الصعود إلى محمية أشجار الأرز، ومن
هناك بمقدوره أن يطل على فلسطين والبقاع، وبحيرة القرعون وصولا إلى صيدا.
جزين خارج فصل الصيف تصلح لمحبي التأمل، وعشاق الهدوء، وهواة المناخات
الصحية العذبة. وهو هدوء يشتكي منه التجار في سوقها التراثية الصغيرة التي
لا يمكن أن يمر بها الزائر دون أن يشتري منها قطعا تذكارية لن يجد لها
مثيلا في أي مكان آخر.
اشتهرت جزين بشكل خاص بصناعة مقابض الشوك والسكاكين والملاعق والخناجر
والسيوف، بطريقة فريدة. وعرفت تاريخيا أكثر من عشر أسر من المدينة بتنافسها
على تنويع الزخارف والنقوش، وابتكار الرسوم الفريدة على هذه المستلزمات
التي يمكن أن تجعل من المائدة لوحة فنية.
ولا تزال هذه الصناعة فخرا للجزينيين، رغم أنها تعاني كثيرا بسبب كسادها
وقلة رواجها. ثمة إحساس بأن هذه المصنوعات اليدوية التي استخدمها رؤساء
الجمهوريات في لبنان هدايا رسمية يقدمونها لرؤساء آخرين أثناء زياراتهم
الخارجية هي من الجودة بحيث إنها ستعود وتنهض من جديد. وحين تزور السوق
التراثية ستعثر على ما يخلبك من هذه المصنوعات، إضافة إلى أشغال يدوية
أخرى، يحرص الجزينيون على التمسك بها. ولذا فإن تذكارات جزين لا تفوت،
والتسكع في سوقها إحدى المتع السياحية التي يحرص عليها الزوار. إنها مدينة
المياه وخزان صيدا الذي لا ينضب، يقطعها النهر وتتفجر من أرضها الينابيع
وتعيش على هدير الشلالات، لكنها أيضا وفي الصيف خصوصا تعرف كيف تسهر حتى
الصباح وتقيم المهرجانات وحفلات الطرب. وهي مدينة تفخر بلقمتها اللبنانية
وتقاليدها الجبلية.
منقول